هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 » سلسلة كتب الأمة » 1 - مشكلات في طريق الحياة الإسلامية » الابوة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
aborami10
لـــون جديد



ذكر السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 04/09/2010
المزاج : عال العال

» سلسلة كتب الأمة » 1 - مشكلات في طريق الحياة الإسلامية   » الابوة Empty
مُساهمةموضوع: » سلسلة كتب الأمة » 1 - مشكلات في طريق الحياة الإسلامية » الابوة   » سلسلة كتب الأمة » 1 - مشكلات في طريق الحياة الإسلامية   » الابوة I_icon_minitimeالسبت سبتمبر 04, 2010 10:57 pm

[افتتاحية المحرر :

للأب في الشريعة الإسلامية مكانة عظيمة وجليلة ، جديرة بأن تسمى (( قصة الأبوة )) حيث نجد صورة رائعة مكتملة الملامح لـ (( الآباء والأبناء في الإسلام )) ولقد كانت (( أبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم )) - بآبائنا وأمهاتنا هو - النموذج الأكمل والأمثل ، ولذلك كان خيرَ أسوة .

ولا غرو في ذلك ؛ فالأب هو القائم على الأسرة ، الراعي لها ، ومسؤول عن رعايتها وعن استقامتها على منهج الله عز وجل ، لذلك وجبت (( حقوق للولد على الوالد )) .

و (( مسؤولية الأب في التعليم والتأديب )) مسؤولية جسيمة تقع على عاتقه فإذا أحسن القيام بها وأولاها حقها وجبت له (( حقوق معنوية وحقوق مالية )) وجوباً شرعياً وإنسانياً .

وكعادتنا في الانطلاق من واقع المجتمع نعالج مشاكله ،ونحاول توصيف أسبابها لنقدم - ما استطعنا - العلاج الذي نراه أمثل ، نفتح نافذة على (( آبائنا في البيوت )) لنظهر بعض المشاكل ونعالجها راجين النفع والأجر والله ولي التوفيق .

المحرر ...

الآباء والأبناء في الإسلام

د. محمد لطفي الصباغ

إنّ حب الأولاد ، والرغبة في الاستكثار منهم ، أمرٌ مغروس في النفس البشـرية ، فترى الإنسان يبتهج لقدوم الولد ، ويسعد لسعادته ، ويحس بوجوده بمعنى الحياة ، ويتقوى بالولد ويعتز ويمنّي نفسه بالمستقبل الزاهر ، والعزّ الضخم والجاه العريض.

قال تعالى: ( زُين للناس حُب الشهوات من النساء والبنـين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المُسومة والأنعام الحرث ، ذلك متاع الحياة الدنيا) فالأولاد من متاع الدنيا، وهم زينة الحياة الدنيا. ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) ا لكهف46 ويدعو بعض الباحثين حبّ البنين والرغبة في الاستكثار منهم بـ"غريزة الامتداد في الذراري والأحفاد ) وذلك لأن آمال الإنسان تضيق عنها الستون أو السبعون من السنين ، فيتطلع المرء إلى أن يخلفه ابنٌ ينسب إليه فيحيي ذكره، ويمتد بالحياة بسببه ولو كان في عالم الأموات ، وهذه الغريزة يستوي فيها الناس جميعاً فقيرهم وغنيهم. وهي من نعم الله التي امـتن بها على عبـاده فقال : ( واتقوا الله الذي أمدكم بما تعلمون . أمدكم بأنعام . وبنين وجنات وعيون ) الشعراء: 130 . وإمتنَّ بها على بني إسرائيل فقال : ( ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرًا ) . الإسراء: 6.

والإسلام دين الفطرة يحرص على إبقائها نقية خالصة ، لا تشوبها شائبة ، ولا يعكر صفوها دخيلٌ ، وهو في الوقت ذاته لم يصادم الغرائز ، ولكنه يرتقي بها ويوظفـها لتكون في خدمة المُثل، ومن أجل بناء الفرد الصالح والبيت الصالح والمجتمع الصالح.

وقد دعا إلى الوفاء والبر عامة ، وخص الوالدين بمزيد من الأمر بالوفـاء لهما والبر بهما ، رعاية لهما في حالة شيخوختهما وضعفهما .

هذا الموضوع يتجلى فيه بوضوح الإحكامُ _ الرائع الذي تميزت به شريعة القرآن_ فلم يهمل جانباً ، ولم يُسرف في جانب . وللنظر بإيجاز إلى معالم هذا الموقف الرباني العظيم .

طالب الإسلام المكلف الذي سيكون أباً بتقدير الأبوة حق قدرها قبل أن يتزوج ، ورغَّب إليه أن يتخير الزوجة الصالحة . فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ تنكح المرأة لأربع : لمالهـا ، ولحسبها ، ولجمالهـا ، ولدينها ، فاظفر بذات الدين ، تَربت يداك ] . رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. ورواه أحمد عن أبي سعيد الخدري بلفظ : تنكح المرأة على إحدى خصال: لجمالها ومالها وخلقها ودينها ، فعليك بذات الدين تربت يمينك .

وقد أثبتت البحوث العلمية أن الجنين تنحدر إليه بعض الصفات الخلقية والنفسية من ناحية الأبوين ، وأنه ينطوي عليها اضطرارياً ، وقد يبلغ الجد الرابع ، فالعرق دساس ، والوراثة أمر محقق علمياً .

ومن طريف ما سمعت أن رجلاً كان يشكو لصديقه عقوق ولده ، وسوء معاملته ، ودناءة طبعه فقال : لا تلُم أحـداً .. لكن توجه باللوم إلى نفسك ، لأنك لم تتخير أمه . وقديماً قيل : كادت المرأة أن تلد أخاها .

وهنا تأتي الاستشارة والاستخارة بعد البحث والتخير ، ولا يجوز أن يغامر الفتى في هذا الأمر بسرعة دون أن يستشير أهله وذوي المعرفة ، ويستخير الله تعالى .

وإذا كان ذلك مطلوباً في الماضي فإن طلبه الآن أشد تأكداً ، لأن ممارسة المرء لحقه في الطلاق كانت في الإطار الإسلامي المشروع ، أما الآن فقد أضحى الأمر مختلفاً، وغدا التسرع في الإقـدام على هذه الخطوة - دون بحث واختيار ، واستـشارة واستخارة - ، ورطة تجلب الشقاء والتعاسة ، وتوجب الندم ، ولات ساعة مندم .

ثم بعد أن يُولد أوجب الشرع على والده المحافظة على حياته ذكراً كان أم أُنثى ، وحرم قتله فقال تعالىSad لا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ) ا لأنعام151 وقال : ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقكم وإياهم ) الإسراء:31 ، فحرم القتل من الفقر القـائم ، أو خشية الفقر المتوقع ، وتكفَّل جل وعز برزقهم ورزق الآباء .

وقد روى البخاري عن عروة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية : ( يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ) الممتحنة:12.

قال عروة : قالت عائشة فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : بايعتـك كلاماً ، والله ما مست يدهُ يد امرأة في المبايعة قط ، ما يبايعهن إلا بقوله قد بايعتك على ذلك .

ثم أمر الإسلام الأب أن يُحسن تسميته، وأوجب رعايته والقيام بشؤونه من إرضاع وكسوة ، وكل ما يحتـاج إليه قال تعـالى : ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يُتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهـن وكسوتهن بالمعروف ، لا تُكلَّف نفس إلا وسعها لا تُضـار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك ) البقرة:233 . ثم أوجب عليه الشرع أن يربيه التربيـة الفاضـلة فيعلمه ما يجب عليه من أمور دينه، ويأمره بالصلاة لسبع ويضربه عليها لعشر، ويفرق بينه وبين إخـوته في المضـاجع ، ويحـذره من التهـاون في حقه ، ( يوصيكم الله في أولادكم ) النساء: 11 .

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ كفى بالمرء إثماً يضيع من يعول ] . رواه الحاكم.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع ، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته ] . رواه ابن حبان.

وعن ابن عمر أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ كلكم راع ومسؤول عن رعيـته ، الإمام راع ومسؤول عن رعيـته ، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها ، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته ] . رواه البخاري ومسلم.

وقد يتعارض الحب والحنان مع المسؤولية والتربية ، وهنا يأتي التحذير من الضعف أمام الواجب ، والاستسلام للعاطفة ، ونسيان المصلحة الكبرى .

إن الدواء قد يكون مُرَّاً ، فإذا غلبت النظرة السطحية ، وامتنع عن تناوله تفاقم المرض وصعب الشفاء ، وقد ينتهي إلى الهلاك، وكذلك إجـراء العملية الجراحية لاستئصال عضو مؤلمة أشد الإيلام ، ولكن يتحمل العاقل آلامها لينـعم بالراحة والشفاء فيما بعد .

والأنبياء فُطروا على حب الأولاد ، وابتغاء الخير لهم ، شأنهم في ذلك كشأن الناس فهذا نوح عليه السلام قد عقّه ابنه بالكفر ، وعانده ، ولم يستجب لدعوته، وركب رأسه متحيزاً إلى فئـة الكفر ، لكنه عندما أراد عليه السـلام أن يركب السفينة تحركت في نفسه عاطفة الأبوة قائلاً -كما يذكر القرآن -( ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بُني اركب معنـا ولا تكن مع الكافرين . قال سآوي إلى جبل يعصمنى من الماء قال : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ) هود:42 .

ويبدو أن الحزن خامر قلب الوالد الرؤوف الرحيم على فلذة كبده ، وهو يراه من الهلكى المغرقين ( ونادى نوح ربه فقال رب ان ابني من أهلي ، وإن وعدك الحـق وأنت أحكم الحاكمين . قال يا نوح إنه ليس من أهـلك إنه عمل غير صالح ، فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) هود:45-46 . وسرعان ما آب الأب إلى الحق مستـغفراً ، ولجأ إلى الله تائباً ( قال رب إني أعوذ بك أن أسالك ما ليس لي به علم، وإلا تغفر لي وترحمني أكُن من الخاسرين) هود:47 لا يجوز أن تغير العاطفة حقيقة العلاقة بين المسلمين ، فابن نوح ليس من أهله ، لأنه عمل عملاً غير صالح ، فالأهـل - عند الله تعالى وفي دينه وميزانه - ليسوا قرابة الدم ، وإنما قرابة العقيـدة . وهذا الولد لم يكن مؤمناً ، فليس إذن من أهله ، وهو النبي المؤمن .

وهذا إبراهيم عليه السلام عندما سمع إكرام الله وتبشيره إياه بإمامة الناس ، أراد أن تكون هذه الإمامة في ذريته ، فجاء التقرير الرباني على نحو ما نقرأ في كتاب الله :

( وإذ ابتـلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمهن ، قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذُريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) البقرة:124 .

وكذلك فإن سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما كان يدعو ربه كان يشرك أولاده معه في هذا الدعاء : ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام ) إبراهيم: 25.

إزاء هذا الفيض من العاطفة ، والسيل المتدفق من الحنان، والميل الشديد لاسترضاء الأولاد ، وإدخال السرور عليهم وقف الإسلام وقفة المذكر المنبـه الكابح، إذ إن هذا الحنان وهاتيك العاطفة قد تنسيان الأب مهمته في التوجيه والتربيـة ، فينقلب عندئذٍ إلى منفّذ لأوامر أطفال صغار ، ومسارع في تحقيـق رغبات هؤلاء الذين لا يعرفون من الحياة شيئاً ، ولا يدرون ما ينفعهم وما يضرهم .

إن كثيراً من أجيال المسلمين اليوم في عدد من بلاد الإسلام لم يجدوا في والديهم إلا الحنان المحض أو الإهمال اللامبالي .. من أجل ذلك تجد في صفات كثير من مسلمي اليوم الميوعة والضعف والانهزامية واللامبالاة .

وعندما كان الرجل في سابق الأيام مسيطراً على البيـت ، كانت شدته وصلابته تخففان من لين الوالدة ، وتكفكفان من تدليلها الأولاد . أما بعد أن استنوق الجمل في كثير من الأوساط ، وأصبح الرجل في بيوت هذه الأوساط لا مهمة له إلا القيام بالخدمات ، وجلب الأغراض والحاجيات ، ودفع الفلوس والنفقات ، ولم يعد يملك من أمر بيته إلا اليسير التافه ، كان هذا الجيل المائع المنهار .

كان الإسلام في أحكامه وتشريعاته محذراً الآباء ومُنبهاً إياهم إلى أمور :

1. منها أن البنين وإن كانوا هم زينة الحياة الدنيا إلا أن هناك ما هو خير منهم .. هناك الباقيات الصالحات ، قال تعالى : ( المالُ والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً وخيرٌ أملاً ) الكهف:46 .

وتشرح آية أخـرى هذا الأمر على النحو الآتي : ( زين للناس حُب الشهوات من النسـاء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومّة والأنعـام ، والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حُسن المآب. قُل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنـات تجري من تحتـها الأنهار خالدين فيها وأزواج مُطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد ) آل عمران:14-15 .

فالجنات والأزواج المطهرة والرضوان من الله خير من كل تلك الشهوات التي كان منها شهوة البنين .

وجاء في كتاب الله تعالى التنبـيه على يوم القيامة بالخصوص ، ذاك اليوم الذي لا ينفع هؤلاء الأولاد آباءهم شيئاً : ( يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) الشعراء: 88-89 .

إن الأولاد لا يقربون إلى الله زُلفى إن لم يكن هناك عمل صالح : ( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زُلفى ) سبأ:37 .

إن الميزان يوم القيامة ميزانٌ لا يعبأ بما تعـارف عليه الناس في دنيـاهم من روابط وعلاقات وقيم ، وإن المـرء لا ينفعه في ذاك اليوم الرهيب إلا ما قدّم من الأعمال الصالحة : ( لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيـامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير ) الممتحنة: 3.

2. التهديد الشديد ، والوعيد المخيف لمن يقـدم أولاده في المحبة على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والجهاد في سبيله ، قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباؤكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون . قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجـكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكنُ ترضونها أحب إليـكم من الله ورسوله وجهـاد في سبيله فتربصـوا حتى يأتي الله بأمـره والله لا يهـدي القوم

الفاسقين ) التوبة:23-24. وإنه لتهديد يخلع القلوب ويذهب بالألباب .

3. التحذير من فتنة المال والأولاد ، والتحذير من أن تلهي المـرءَ أموالُه وأولاده عن ذكر الله ، فقد ينتهي المرء أحياناً إلى الكفر بسبب ولده .. قد ينتهي إلى المعصية والتقصير والتقاعس عن القيام بالواجب .

وقد رأينا في واقعنا ناساً كانوا طيبين ، حملتهم عاطفة المسايرة لأولادهم على تأييد الباطل ضد الحق ، ونصرة الكفرة على المسلمين ، لأن أولادهم قد ضلوا عن سواء السبيل ، وانحازوا إلى جانب الانحراف .

وقص الله تبارك وتعالى علينا في قصة موسى مع العبد الصـالح ، فقال عز وجل : ( وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يُرهقهما طُغياناً وكفراً فأردنا أن يُبدلهما ربهما خيراً منه زكاةً وأقرب رحماً ) الكهف: 80-81 .

لقد حذرنا الله سبحانه من الانسياق وراء الأولاد ، متخطين حدود الله ، فذكر أن منهم أعداء فقال : ( إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم، وإن تعفوا وتصفحوا فإن الله غفور رحيم . إنما أموالـكم وأولادكم فتـنة والله عنده أجـرٌ

عظيم ) التغابن: 14-15.

فالأزواج والأولاد قد يكونون مشغلةً وملهاةُ عن ذكر الله ، كما أنهم قد يكونون دافعاً للتقصير في تبعات الإيمان . والمجـاهد في سبيل الله يتعرض لخسـارة الكثير وتضحية الكثير ، كما يتعرض هو وأهله للعنت ، وقد يتحمل العنت في نفسه ولا يحتمله في زوجـه وولده فيبـخل ويجبن ليوفر لهم الأمن والقرار أو المتاع والمال، فيكونون عـدواً له ، لأنهم صدوه عن الخير، وأعاقوه عن تحقيـق غاية وجوده الإنساني العليا ، وقد اعترف بعض المتقدمين بأن الذي زين له القعود عن الجهاد والحرب بناته الضعيفات ، فقال :

لقد زاد الحياة إليّ حبــــاً بناتــي إنهنّ مــن الضعافِ

أحاذر أن يرين الفقر بعــدي وأن يشربن رنقـاً بعـد صافِ

وأن يعرين إن كُسي الجـواري فتنبو العيـن عـن كرم عجافِ

أبانا مَن لنا إن غبـت عنـّـا وصار الحيّ بعدك في اختلاف

ولولا ذاك قـد سومت مُهري وللرحمن في الضعـاء كـاف

وحذرنا جل جلاله من أن تلهينا أموالنا وأولادنا عن ذكر سبحانه ، وعدّ من يفعل ذلك خاسراً ، فقال : ( يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ) المنافقون: 9 .

وإننا لنبصر في واقعنا حال كثير من هؤلاء الآباء الذين تلهيـهم أموالهم وأولادهم عن ذكر الله كيف يخسرون الهدوء والطمأنينة ، والراحة والسعادة ، يخسرون ذلك في سن الشباب والكهولة ، ثم هم بعد أن تتقدم بهم السن لا يستطيعون أن يتنعموا بالأموال التي جمعوها ، وقد ينساهم أبناؤهم ولا يلتفتون إليهم .

سمعت أن واحداً من هؤلاء الساقطين من الأبناء حمل أباه إلى مأوى العجزة لكيلا يضايقه أو يزعج زوجته ، وأعرف آخر أرسله أبوه إلى ديار الغرب ليدرس ويعود، وكان يؤثره بالمبلغ الذي يطلبه ، ويؤثره على نفسـه ودوائه وطعامه ، فلما تخرج تزوج من تلك البلاد واستقر هناك .. ولم يأت ليرى أباه على فراش المرض يودع الحياة . أيّ خُسران في الدنيا أكبر من هذا ؟!! وأما في الآخرة فإنهم صائرون إلى عالم الغيب والشهادة ، شديد العقاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون .

3. الترغيب في تربيتهم تربية إسلامية حتى يكونوا ناسـاً صالحين ، وإنهم عندئذ سيتذكرون آباءهم بالدعوات الصالحة، ويمتثلون أمر الله ( وقل رب أرحمهما كما ربياني صغيراً ) الإسراء:24 . ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ إذا مـات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينـتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ] . رواه مسلم.

وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنَّ من تعهد بناته بالتربية والإنفاق كنَّ له سترًا من النار. فعن عائشة رضي الله عنها قالت : دخلت عليّ امرأة ومعها بنتان لها تسأل ، فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة واحدة ، فأعطيتها إياها ، فقسمتها بين ابنتـيها ، ولم تأكل منها شيئاً ، ثم قامت فخـرجت ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينـا فأخبرته فقال : [ من ابتُلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كُن له ستراً من النار ] . رواه البخاري.

وهنا أود أن ألفت النظر إلى خطأ شائع في تربية الأولاد : هو أن الناس يظنون أن حسن التربية يقتصر على الطعام الطيب ، والشراب الهنيء ، والكسـوة الفخمة ، والدراسة المتفوقة، والظهور أمام الناس بالمظهر الحسن، ولا يدخل في مفهوم التربية عندهم تنشئة الولد على التدين الصادق ، والخلق الكريم. . إن هذا الخطأ جسيم . والله لو آلت إلى هذا الولد أموال الدنيا ثم كان من أهل النار إنه لشقيٌّ .

وهكذا فإن الإسلام لم يترك الإنسان يسير وراء عاطفته سيراً غبيـاً ، وإنما نبهه إلى أنه ينبغي أن يكون اعتماده على عمله وتقواه ، وحذره من أن يُفتن عن دينه بسبب الأولاد ، وأمره في الوقت ذاته بإعداد أولاده إعداداً إسـلامياً وجعله مسؤولاً عن ذلك .

من كتاب نظرات في الأسرة المسلمة.

أبوةُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم

أ.د. عبدالعظيم الديب .

تمهيد :

لا تخطئ النظرة الأولى لسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم كمـال صفة الأبوة في رسـول الله صلى الله عليه وسلم ككل صفاته . وإن كان من أبرز مظاهـر الأبوة وأهمها الشفقة بالأطفال والرقـة لهم .. فقد كان ذلك واضحاً جلياً في حياته عليه الصلاة والسلام _ ليس مع أبنائه وبناته الذين من صلبه ، أو أبنائهم وبناتهم فقط- بل كان ذلك مع أبناء المسلمين عامة. وذلك يشهد بقوة الأبوة وأصالتها لديه صلى الله عليه وسلم ، فقد يكون الإنسان أباً عطوفاً شفوقاً مع أبنائه خاصة ، يستنفذون طاقة حنانه ، وجهد شفقته ، وآخر بره ، فلا يبقى لغيرهم شيء ، أما نبي الرحمـة صلى الله عليه وسلم فقد كانت الأبوة فيه كاملةً شاملة فاض برها وحنانها وشفقتها على أبنـاء المسلمين جميعـاً ، وسعدوا بها ، وتَفيّـؤوا ظلالها ، كانت أبوة سخية معطاءة ، بارة حانية ، تُعلم الآباء كيف يكون البر ؟ وكيف تكون الرحمة ؟ وكيف يكون الحنان ؟ بل كيف تكون الأبوة، وما زال وسيظل يرنّ في آذان البشرية أخبار تلك الأبوة الكاملة الشاملة ، حيث سجلتـها الأحاديث الصحيحة سطوراً من نور يهدي الإنسانية إلى سنة خير البرية . عليه الصلاة وأزكى السلام .

من مظاهر الأبوة العامة :

كان صلى الله عليه وسلم يفرح بأطفـال المسلمين ، ويهنئ بميلادهم ، ويباركهم ، ويسعد إذ يأتونه بهم يُحنـكهم ، ويسميهم ، ويبين للمسلمين كيف يستقبـلون أبناءهم ، ويحثهم على الفرحة بهم ، والاحتفال بمقدمهم ، ويدعوهم للعقيقة عنهم يوم سابعهم ، ويشهد هذه الولائم تنويهاً بها، وإعلاءً لشأنها وللمناسبة التي أقيمت من أجلها .

عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها حملت عبد الله بن الزبير بمكة ، قالت : فخرجت وأنا متـم - أي في آخر أيام الحمل - فقدمت المدينة ، فنزلت بقبـاء ، فولدت بقُباء ، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوضعه في حجـره ، ثم دعا بتمرة ، فمضغها ، ثم تفل في فيه ، فكان أول شيء دخل جوفه ريقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم حنّكه بالتمرة ( التحنيك: هو أن يمضغ التمرة حتى تلين ، ثم يدلك بها حنك الصبي ، داخل فمه ، حتى ينزل إلى جوفه شيء منه ) ثم دعا له ، فبرّك عليه ، وكان أولَ مولود في الإسلام .

وفي رواية أخرى زيادة : ففرحوا به فرحاً شديداً ، لأنهم قيل لهم : إن اليهـود قد سحرتكم فلا يولد لكم. رواه الشيخان .

وفي الصحيحين أيضاً عن عائشة رضي الله عنها ، نحو هذا الحديث ، وفيه وسمـاه

عبد الله .

ولا يقولن قائل : إن هذا يدخل في باب ملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم لأبنائه ، وآل بيتـه ، فإن أسماء أخت عائشة زوجه ، والزبـير زوج أسماء ابن صفية بنت عبد المطلب ، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا يقولن قائل ذلك، فإن هذا لم يكن لابن أسمـاء وحدها ، والأخبار عن فعله عليه الصلاة والسـلام ذلك بغير عبد الله بن الزبير لا تقف عند حصر .

وكأني بأصحابه رضوان الله عليهم قـد عرفوا حبّه عليه الصلاة والسـلام لذلك وسعادته به ، فكانوا يحرصون عليه ، ويهتمون به ، بل وجدوا _ هم أيضاً _ خيراً في ذلك لأبنائهم ، وبركة عليهم ، يشهد لذلك مارواه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال : ولدت أم سُليم - زوج أبي طلحة ، وأم أنس- غلاماً ، فقال أبو طلحة: ( احفظيه أي لا يتناول شيئاً ، كما صرح بذلك في رواية أخرى عند البخاري أيضاً حتى تأتي به النبي صلى الله عليه وسلم ) ، وفي الـرواية الأخـرى أن الذي طلب حفظه من أن يتناول شيئاً هي أم سليم ، ولا مانع أن يكون الطلب بالمحافـظة على الغلام من أن يتناول شيئاً قد كان كل منهما جميعاً - من أبي طلحة وأم سليم - ، وتكررت الرواية من أنس رضي الله عنه . قال أنس : وأرسلت أم سليم - معه أي الصبي - بتمرات ، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أمعه شيء؟ قالوا : نعم . تمرات ، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فمضغها ثم أخذ من فيه فجعلها في فم، الصبي وحنّكه به ، وسماه عبد الله .

وهذا الحديث أخرجه "مسلم " بزيادة فجعل الصبي يتلمظه فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : حُب الأنصار التمر .

فهنا نجد حرص كل من أبي طلحة ، وزوجته أم سليم على أن يكون أول ما يدخل جوفَ الصبي من ريقُ النبي صلى الله عليه وسلم .

ولا يفوتنا أن نسجل ما ظهر من تلطف الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومداعبته، حين علق على تلمظ الطفل يتلمظ ، أي يحرك لسانه في فمه ، ليتتبع ما فيه من تمر قائلاً : حُب الأنصار التمر .

فكأنه عليه الصلاة والسلام يفسر تلمظ الغلام بعراقته في حب التمر ، وإرثه ذلك عن آله الأنصار ، فقد كان أهل المدينة الأنصـار أهل نخيل ، فالتمر شائع فيهم ، وعامة طعامهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر ذلك في معرض المجاملة والثناء ، والرضى عن الأنصار وأبناء الأنصار .

وربما قيل : إنّ أم سليم وأبا طلحة ليسا بعيدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنس خـادم الرسول ابن أُم سليم ، والمولود أخوه لأمه ، فهو يرتبط بنوع صـلة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يقطع هذا القول ، ويؤكد أن ذلك البر بالأبناء كان لكل أبناء المسلمين ، قال أبو موسى:

ولد لي غلام فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم به فسماه إبراهيم ، وحنـكه بتمرة ، ودعـا له بالبركة ، ودفعه إليّ ، وكان إبراهيـم هذا أكبر ولد أبي موسى الأشعري . (رواه البخاري).

وربما كان أوضح في الدلالة على أن ذلك كان شـأن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه كان مألوفاً معروفاً عند المسلمين ما رواه هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عائشة رضي الله عنهم : "أن رسـول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالصبيان فيبرّك عليهم ، ويحنّكهم ". ( أخرجه مسلم ).

فهذا الحديث بهذه الصيغة ناطق وشاهـد بأن ذلك كان شـأناً منه ، ومعروفاً عنه صلى الله عليه وسلم ، ومعهوداً من صحابته معه ، بصفة عامة، وأن الأحاديث التي رويت وحددت أسماء ووقائع معينة مجرد أمثلة ، وليست حاصرةً جامعة مانعة .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم ، في تسميته لأبنـاء الصحابة رضوان الله عليهم يتوخى فيها المناسبة لحال كل طفل ، وما يدخل السرور على أسرته ، ويسعدهم ، ينطق بذلك الحديث التالي :

عن سهل بن سعد قال : أُتي بالمنذر بن أبي أسيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد ، فوضعـه النبي صلى الله عليه وسلم على فخذه ، وأسيد جالس ، فلهى النبي صلى الله عليه وسلم بشيء - أي شغل به - بين يديه ، فأمر أبو أسيد بابنـه فاحتمل من على فخذ رسول الله فأقلبوه، فاستفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أي مما شغله ) فقال : أين الصبي ؟ فقال أبو أسيد : أقلبناه يا رسول الله ، قال :

ما اسمه ؟ قال : فلان يا رسول الله . قال : لا ولكن اسمـه المنـذر ، فسماه يومئذٍ المنذر. ( رواه الشيخان ).

فمع ما كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم من شغل ، استغرقه حتى احتُمل الصبي من على فخذه من غير أن يشعر ، مع ذلك لم ينس أن يسأل عن اسمه ، ولما عرفه ، غيّره ، لا لكراهية الاسم الذي سموه به ، ولكن ( المنذر كان ابن عم أبيه ، وكان قد استشهد ببئر معونة ، وكان أميرهم ، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم له اسم المنذر تفاؤلاً أن يكون خلفاً من ابن عم أبيه الشهيد ، الذي استشهد ببئر معونة .

ومن هذا أيضـاً ما رواه أحمد والبزار عن عليّ رضي الله عنه قال : لما ولد الحسن سميته حرباً ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال : [ أروني ابني ، ما سميتموه ؟ ] قلت : حرباً ، قال : [ حسن ] . فلما ولد الحسين سميته حرباً فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال : [ أروني ابني ، ما سميتموه ؟ ] قلت حرباً قال : [ هو حسين ] ، فلما ولد الثالث سميته حرباً ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال :[ أروني ابني ما سميتموه ؟ ] قلت حرباً ، قال : [ بل هو محّسن] فنحن هنا أمام إصرار من علي رضي الله عنه على حرب ، وكرره في كل مرة ولد له فيها ولد من فاطمة ، والنبي صلى الله عليه وسلم في كل مرة يتجاوز عن اختيار على وإصراره ، ويغير الاسم ، فلماذا أصر علىّ رضي الله عنه ، ولماذا غير صلى الله عليه وسلم ما أصر عليه ؟ إخال علياً كرم الله وجهه - وهو رجل الحرب المعروف بالبطولة والإقدام، صاحب المبارزة يوم بدر ، وصاحب الصولة والجولة يوم خيبر- كان يختار اسم حرب ليكنى بأبي حرب، فتوافق كنيتُه صفته وحالته، فهو البطل أبو حرب، كذا كان يُقدر على رضي الله عنه ، فلم يرض الرسـول صلى الله عليه وسلم ، ولم يتهـاون في تغييره والذي يلوح لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى البطولة والشجاعة والثبات في الحرب صفات كاملة متحققة في علي كرم الله وجهه ، فلم يرض أن يحصر نفسه في هذا الجانب ، وأن يجعل كل همّه الحرص على هذه الصفة ، وأن ينادى بها، بل أراد أن يلفته إلى غيرها ، ولعله صلى الله عليه وسلم أراد أبعد من هذا ، أراد أن يخفف من اهتمام علي بالحرب وانشغاله لها .

تلطفه صلى الله عليه وسلم بالصغار ومداعبته لهم

لم يقف برُّه صلى الله عليه وسلم عند حد تحنيـكه أطفال المسلمين ، وتبريكهم ، وتسميتهم ، بل كان يداعبهم ، ويلاطفهم ، ويدخل السرور عليهم .

روى البخاري بسنده عن أم خالد بنت خالد بن سعيد أنها قالت: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي ، وعليّ قميص أصفر ، فقال رسول الله: [ سنه سنه ] - هو بالحبشية حسنة - ، قالت : فذهبت ألعب بخاتم النبوة ، فزبرني أبي من ذلك ( أي نهرني وزجرني ، ومنعني ) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ دعها ] ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [أبلي وأخلقي ، ثم أبلى وأخلقي ، ثم أبلي وأخلقي ] ، قال عبد الله بن المبارك راوي الحديث : فبقيت حتى ذكر من بقائها .

والمعنى: أبلي وأخلقي كثيراً ، أي تعيشين حتى تستهلكي الكثير الكثير من الثياب ، فهو دعاء لها بطول العمر ، وفي رواية أبلي وأخلفي - بالفاء - والمعنى : أبلي هذا وأخلفي غيره ، وهو أيضاً دعاء بطول العمر ، وقد استجاب الله سبحانه وتعـالى دعاء رسول الله صلى الله عله وسلم فبقيت حتى ذُكر من بقـائها أي طال عمرها حتى ذكرها الناس بذلك ، وعرفوها به .

وهنا نجـد من الرسول صلى الله عليه وسلم مبالغة في التلطف والود والبر ، فيقول للصبـية "سنه سنه " - أي جميلة - بلغة الحبشة - فلِمَ خاطبها بلغة الحبشة ؟ لقد كانت الصبية حديثة عهد بالحبشة ، حيث كانت عائـدة مع المهاجرين من هناك ، وأكاد أجـزم أن الصبية علقت بعض كلمات من لغـة الحبشة كانت تلهج بها ، وتتظرف بها لما تراه من حب من حولها لتردادها ذلك، كما نرى آل الطفل يرددون لثغته ويحاكون لغته وهم في سعادة وسرور ، فكأن صبيـتنا كانت تردد كلمة سنه سنه ، فيما تردد من كلمات تعلقتها من لغة الحبشة ، فخاطبها النبي صلى الله عليه وسلم بلغة الحبشة ترديداً لقولها ، واستحساناً لكلامها .

ثم لا بد أن نقف هنا أمام أروع صور البر الأبوي ، فمحمد عليه الصلاة والسلام الذي ترققه الأبوة ، ويلينه الرفق والبر ، حتى تُقبل الصبية عليه تتواثب على حِجره وكتفيه صلى الله عليه وسلم، وتلعب بخاتم النبوة بين كتفيه، وتجيل أناملها تتحسس وتداعب وجهه الكريم ، وجسده الشريف ، محمد الذي تبلغ به الرقة هذا المبلغ هو هو محمد الذي كان يقف أمامه الأعرابي الفظ الجافي فتأخذه الروعة والهيبة فيرتجف، ويضطر صلى الله عليه وسلم أن يطمئن الرجل ويذهب روعه ، فيقول له : [ هون عليك إنما أنا لست بمَلِك ، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد ] .

بل كانت هيبـته صلى الله عليه وسلم أبعـد من هذا وأكبر ، فليست هيبة تروّع وفداً لم يلقـه قبل فقط ، بل كانت هيبـتة أكبر من أن تزول بالإلف والمعاشـرة والمعايشة ، فقد كان أصحابه صلى الله عليه وسلم الذين معه ، يلازمونه ليله نهاره، وحلّه وترحاله أكثر هيـبة له من الذين لا يعرفونه . ويكفينا في هذا المجال حديث واحد . رواه مسلم في صحيحه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال : صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما ملأت عيني منه قط ، حيـاء منه ، وهيبة ، وتعظيماً له ، ولو قيل لي : صِفه ، لما قدرت .

فهذا عمرو بن العاص داهية العرب ، قائد الجيوش ، وقاهر الأبطال، ووزير معاوية ومستشاره ، وصنديد قريش ، وابن سيد من ساداتها ، ابنُ العاص الذي كان يلبس الديباج مزرراً بأزرار الذهب ، عمرو ابن العـاصي هذا لا يقدر أن يملأ عينيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأم خالد ، هذه الصبية تلعب بخاتم النبوة‍‍‍‍‍‍ ؟ هذه الهيبة وهذه العظمة كلها تلين وترق وتبر وترحم حتى هذا الحد ، فأي عاطفة هذه ، وأي أبوة هذه ؟ إنها الأبوة الكاملة الشاملة .!

من مظاهر الأبوة الخاصة

هذا عن أبـوته صلى الله عليه وسلم لأولاد المسلمين وعامتهم ، أما أبوته لأولاده وأحفاده ، فلا شك أنها كانت أبلغ وأكمل - فسنة الخلقة وطبيعة الفطرة أن يكون حب الإنسان لمن هم من صلبه وذويه أقوى من حبه لمن سواهم ، مهما بلغ في حبه ورقته - فحبه لبنيه وذويه لا شك أبلغ وأكبر طبيعةً مطبوعة ، وفطـرةً مفطورة ، وجِبلّة مجبولة .

وإذا نحن أخذنا في بيان سمات أبوته صلى الله عليه وسلم ، وملامحها ، لوجـدنا من ذلك ما يقضي الفطنُ العجبَ منه ، ولكنا نوجز قولنا، ونعرض بعض ملامح الأبوة النبوية وخصائصها على النحو التالي :

1. عدم التفرقة بين البنين والبنات ، أو قل: إعطاء البنات من المحبة والتقدير حقهن كاملاً ، لا تنقصهن أنوثتهن من ذلك شيئاً .

ولقد كانت البيـئة الجاهلية الجافية ، في حاجة إلى من يلقنـها هذا الدرس عمليّاً وسلوكياً ، قبل أن يلقنه لها نظريّاً . وتعاليم تلك البيـئة التي كان فيها من تتحجر عاطفته ، ويجف نبع الحنان في قلبه ، وتنتكس فطرته ، وترتكس طبيعته ، حتى يدفن ابنته حية في التراب . ( وإذا بُشر أحدهم بالأنثى ظلّ وجهة مسودَّاً وهو كظيم . يتوارى من القوم من سوء ما بُشّر به أيُمسكه على هُوْنٍ أم يَدُسُّه في التراب ألا ساء ما يحكمون ) سورة النحل: 58-59.

في هذه البيئة وجدنا محمداً صلى الله عليه وسلم يخرج للصلاة حاملاً أُمامة بنت أبي العاص ، ويتقدم إلى الصلاة وهي على كتفه ، فإذا سجد وضعها ، وإذا قام رفعها. ما أرحمه ، وما أحلمه وما وما أعظمه ، أمامة بنت زينب ابنته على كتفه وهو يؤم المسلمين في الصلاة ؟ ماذا عليه لو تركها بحجرته ؟ ماذا لو تركهـا مع من يرعاها ويهدهدها حتى ينتهي من صلاته ؟!

أترى رسول الله تدفقت في قلبه ينابيع الحب والشفقة، فلم يقدر على أن يحرم نفسه من ريح أمامة ؟! أم تراه خاف عليها أن تتألم أو تبكي لفراق جدها ؟! أم الأمر غير هذا وذاك ؟ نعم . أراه صلى الله عليه وسلم أراد أن يعلم المسلمين درساً في الأبوة، أو درساً في الصلاة أو هما معاً .

فكأني به صلى الله عليه وسلم أراد أن يقول لأمته إن الصلاة التي هي مناجـاة من العبد لربه ، الصلاة التي جعلت فيها قرة عينه صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة لا يبطلها ، ولا يمنع منها أن تكون ابنتك على كتفك، بل لعله أراد أن يقول لأمته إن هذه الطفلة والرقة لها ، والشفقة عليها، من مطهرات القلوب ومن أسباب تخليصها لله ، فهي من المعينات على إحسان الصلاة .

أم الأمر أكبر من كل ذلك ، وأنه أراد أن يقول إن هؤلاء البنات اللاتي كُنّ تسودّ منهّن الوجوه ، أولى بالرعاية والإكرام والشفقة والرحمة ؟

نعم هذا ما أردت أن تقوله يارسـول الله فها أنت قد قلته عملياً ، ثم أكدته قولاً: [ من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن ، وأطعمهن ، وسقاهن ، وكساهن ، كنَّ له حجاباً من النار يوم القيامة ] ( ابن ماجه واحمد ).

وقال صلى الله عليه وسلم :[من بُلي من هذه البنات شيئاً، فأحسن إليهن ، كُنّ له ستراً من النار يوم القيامة ] أخرجه البخاري .

نعم إنها الأبوة الحقة الكاملة التي تسع الذكـور والإناث ، ولا تفرق بينهما ، ولا تقدر أن تفرق لو أرادت ، فسخاء العطاء ، وتدفق البر لا يمكن أن يعرف حـدّاً يفرق بين الذكر والأنثى ، ويزداد يقيننا بهذا الذي قلناه ، حين نسمع عائشة رضي الله عنها تقول : أُهـدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قـلادة من جذع معلمة بالذهب ، فقال :[ والله لأضعنها في رقبة أحب أهل البيت إليَّ ] فاستشرف لها كل نسائه ، فأقبل بها حتى وضعها في رقبة أمامة بنت أبي العاص . أحمد وأبو يعلى.

نعم .. أمامة (الأنثى) أحب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إليه ؟!

أيقدر أحد بعد ذلك أن يثير فرقاً بين البنين والبنات ؟ بعد أن حمل رسول الله أُمامة في الصلاة ، وبعد أن أعلن أنها أحب أهل البيت إليه .

وفي هذا أيضاً أنه كان صلى الله عليه وسلم يدلل زينـب بنت أم سلمة ، وكانت طفلة في حِجر أمها ، ويقول لها : ( يا زناب ) .

كذلك نجده صلى الله عليه وسلم يأسى لموت ابنته زينب ، وتظل اللوعة لا تفارقه، حتى إذا ولدت الزهراء فاطمة أنثى سماها زينب إحياء لذكرى ابنته الغائبة .

وأجار أبا العاص حين أجارته ابنته زينب ، ومن قبل ردّ لها قلادتها، وفك لها أسيرها حين أُسر أبو العاص في بدر ، وأرسلت زينب تفتديه بقلادتها .

وحبه صلى الله عليه وسلم لفاطمة ، ومن فاطمة ؟ إنها رابعـة بناته صلى الله عليه وسلم فلو قلنا : أحب زينب لقيل كبرى بناته ، وأول من أذاقته طعم الأبوة ، أما رابعة البنات بعد زينب وأم كلثوم ورقيـة ، ويضفيهـا كل هذا الحب؟ فهذا هو الحب الذي يتدفق من الأبوة الطاهـرة المستقيمة السخية ، التي لا تعرف فرقاً بين الإناث والذكور .

جاءت فاطمة رضي الله عنها وقد مات ولداه القاسـم وعبد الله ، فلو كان هناك مجال للتفرقة بين الإناث والذكـور ، لكان لفاطمة مكان غير هذا المكان ، ومنزلة أخرى غير هذه المنزلة ، بل لكانت عبئاً يضاف إلى شقيقاتها الثلاث ، ولكنها الأبوة الأصيلة النقية ، التي لا تفرق في عطائها وسخائها بين ذكر وأنثى .

وأخبار حُبِّه لفاطمة رضي الله عنها لا تحتاج إلى بيان أو تأكيد ، ومن أراد أن يرجع اليها ، ففي الصحيحين في - مناقب فاطمة - ما يكفي ويشفي .

2. عدم التفرقة بين الأبناء بعضهم وبعض :

اجتمع عند النبي صلى الله عليه وسلم من ذريته الأخوات الأربع : زينب ، ورقية وأم كلثوم ، وفاطمة ، وأما القاسم وعبد الله فقد ماتا صغيرين قبل البعثة أو بعدها بقليل . يشهد لذلك سورة الكوثر : ( إنا أعطيناك الكوثر . فصل لربك وانحر. إن شانئك هو الأبتر ) . فقد كانوا يعيرونه صلى الله عليه وسلم بأنه أبتر ، لا ولد له ، وسورة الكوثر من أوائل ما نزل من القرآن في أول البعثة .

والأخبار التي حفظت لنـا معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لبناته ، لم تفصل كثيراً شأن هذه المعاملة وكيف كانت ، وكن متزوجات ، فلم يرد لنا من مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم بينـهن شيء نرجع إليه في ذلك فيما نعلـم ، ولكن ما علمه صلى الله عليه وسلم لأمتـه في حديث النعمان بن بشير حين قال : لا أشهد على جور ، يؤكد لنا أنه يرى أن الأبوة السليمة والفطرة المستقيمة هي التي لا تفرق بين الأبناء.

3. أبوة حانية مشفقة :

وأحسب أن ما ضربه النبي صلى الله عليه وسلم يجـل عن المثـل عند الوصف ، ويسمو فوق كل تعليق أو بيان ، وأن ما ورد في هذا المجال من أخبار لا شك مجرد نماذج وأفراد رآها الرواة فسجلوها ورووها ، وإلا فكـم من وقائع لم يشـاهدها شاهد ، ولم يرها راءٍ ، بل كم من وقائع شاهدها المشاهدون ورآها الراؤون ، ولم ينقلوها أو لم يدونوها .

وإنا لنعجب أشد العجب حين نرى أبوة النبي صلى الله عليه وسلم لا يحجبـها ولا يشغلها ، ولا يسترها ، ما كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم من جهاد . غزوات نحو الثلاثين ، وسرايا ، ووفود ، ورسل وتعليم ، وتبليغ ، ووسط كل هذا تعلن الأبوة الأصيلة عن نفسها ، وتجد لهـا مكاناً بارزاً في حياته وسيرته صلى الله عليه وسلم .

إن أي رجل الآن يلي منصبـاً ذا مسؤولية في دائرة من الدوائـر ، نجده مهموماً مكروباً مشغولاً ليل نهار ، ينسى ولده وأهله ، وربما ينسى نفسه .

أما الأبوة عند محمد الإنسان صلى الله عليه وسلم ، فنجد لها مكاناً في خِضَمّ هذه الحياة الحافلة بصنوف الشدائد والأهوال . إنها الأبوة الكاملة ، إنها الأبوة القادرة على أن تعبر عن نفسها ، وتعلن وجودها ، بل لعلها أيضاً كانت معركة من ضمن معارك النبوة .

يأتي الوفد من حيث أتى وفيهم سيدهم المطاع - الأقرع بن حابس التميمي - فلا يمنعه صلى الله عليه وسلم ما هو فيه من شغل باستقبال هذا الوفد ، من أن يعبر عن أبوته ، فيداعب الحسن ويقبله، فيعجب الرجل ، ويقول مستغرباً: تقبلون الصبيان؟ إنّ لي عشرة من الصبيان ما قبلت واحداً منهم. وعلى الفور يجيئه الرد قاسياً بمقدار ما في قلبه من قسوة ، عنيفاً بمقدار ما ينطوي عليه سلوكه تجاه أبنائه من عنف . يقول صلى الله عليه وسلم: أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك ؟.‍ رواه البخاري

لم يقل له صلى الله عليه وسلم قولاً ليناً من مثل : لا شيء في تقبيل الأبناء ، أو إن تقبيلهم من المكرمات ، أو إن تقبيلهم من الرحمة والرقة ، إنما جابهه مباشرة بالسبب والسر الذي جعله يسلك هذا السلوك ، وهو أنه محروم ، حرم الرحمة ، نزعها الله من قلبه ، والنبي صلى الله عليه وسلم هنا لا يعنف الأقـرع مؤنبـاً له على شيء لم يرتكبه ، وهو أن الرحمة نزعت من قلبه، ذلك أنه صلى الله عليه وسلم على يقين من أن مقتضى الأبوة المستقيمة ، والفطرة السليمة ، أما هؤلاء فقد كانوا يروضون أنفسهم على خنق صوت الأبوة ، وطمر ينابيع الرحمة والشفقة، ووأد العاطفة إيثاراً للجفاء والغلظة ، حتى يكون أبناؤهم جفاة غلاظـاً يدخرونهم للصـراع القبلي ، الضيق العطن ، فكأنه صلى الله عليه وسلم رأى أن نزع الله الرحمة من قلبه ، إنمـا بعلمهم وسعيهم وإرادتهم .

وحين يعجب متعجب من المصطفى صلى الله عليه وسلم قائلاً له: تقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم . يقول له صلى الله عليه وسلم : [ من لا يرحم لا يرحم ] رواه البخاري.

وكدأبه دائماً يعلم أمته ، ويدعو إلى الهدى والرشد ، فيجعل بر الأبناء والشفقة بهم عبادة يثاب عليها الآباء ، فعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ إذا نظر الوالد إلى ولده نظرة ، كان للولد عدْل عتق نسمة ] رواه الطبراني في الكبير وهو حديث حسن.

وأخبار أبوته الحانية ، ورقته صلى الله عليه وسلم ورحمته بالأولاد لا يتسع المقام هنا للإحاطة بها أو إحصائها ، ولكنا نكتفي بإيراد أمثلة وشواهد لها :

فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال : ( ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إبراهيم ابنه مسترضعاً في عوالي المدينة ، وكان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت ، وإنه ليدخن ، وكان ظئره قينا ، فيأخذه ، فيقبله ، ثم يرجع ) . ( الظَّئر : زوج المرضعة لولد غيرها ، القَيْن : الحدَّاد ) .

وعن عائشة رضي الله عنها قالت : عثر أسامة بعتبة الباب ، فشج في وجهه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ أميطي عنه الأذى ] فتقذرته ، فجعل يمص عنه الدم ، ويمجه عن وجهه ) ثم قال : [ لو كان أسامة جارية لحليته ، وكسـوته حتى أنفِّقه ] رواه ابن ماجه

فهنا نرى حبه صلى الله عليه وسلم ، وإشفاقه ، وتدليـله لأسامة حتى يتمنى أن لو كان بنتًا فيزينه ، ويجمله بالملابس والحُلي ، وحتى يروجها للخُطاب ، وفي قوله هذا من العتاب لعائشة ما فيه ، فحيث تقذرته هي ، وضع فمه ومصه ، ثم حيث أنفت هي واشمأزت ، رآه جميلاً حتى إنه لو كان بنتاً ، لكان جديراً بالحلى والزينة .

ويبدو أن عائشة رضي الله عنها وعت الدرس جيداً ، فقد غيّرت موقفـها في المرة الثانية ، حيث روت رضي الله عنها: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحى مخاط أسامة ، فقالت عائشة دعنى حتى أنا أفعله ، قال : [ يا عائشة أحبـيه ، فإني أُحبه ] رواه الترمذي.

فهنا لم يطلب النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة ، بل هي التي طلبت أن تنـحي مخاط أسامة ، مع أنها في المرة الأولى طلب منها النبي صلى الله عليه وسلم ولكنـها تقذرته ، ونستطيع أن نلمح في هذا الحديث أنها استحت من رفـض طلب النبي في المرة الأولى ، وأرادت أن تجامله صلى الله عليه وسلم في هذه المرة، وطلبت هي من النبي أن يدعها تقوم بإزالة مخاط أُسامة .

ويلفت النـظر أن النبي صلى الله عليه وسلم يعـرض عن طلبها ، ولا يلتفت إلى إجابتها ، لا بقبول ولا رفض ، ولكن يوجهها إلى ناحية أخرى ، إلى أساس الأمـر وعموده ، أحبيه يا عائشة ، فإني أحبه . فكأنه صلى الله عليه وسلم أدرك أنهـا لا تقوم بهذا العمل عن رغبة فيه ورضًا به ، وقبول له ، وإنما إرضاءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقط ، ولعله أشفق عليها أن تكلف نفسها ما لا تُطيق، ولذا وجهها إلى ما يرجوه فعلاً منها : [ أحبيه ] فإذا أحبته سهل - حيئذ - أن تؤدي له كل ما يرجى من إماطة الأذى .

والأخبار عن حمل الحسن والحسين ، وعن نزوله عن المنبر من أجل أحدهما، وإطالة السجود لركـوب الحسن على ظهره ، والتردد على بيـت فاطمة لتعهـدهما ، والاستمتاع بمرآهما وشمهما ، وكذا ما كان منه تجاه ابنه إبراهيم ، من فرح بميلاده، وحُب له في حياته ، وحُزن عليه عند مماته ، الأخبار في هذه المجالات ونحوها كثيرة.

حقوق وواجبات

حقوق الولد على الوالد

عدنان حسن باحارث.

مراعاة الزوجة أثناء الحمل :

تشعر المرأة الحامل بتغيـيرات نفسـية مفاجئة ، فتشعر بالسعادة أحياناً ، وبالكآبة أحياناً أخـرى ، وتعيش في جـو من التأرجح العاطفي المتقلب ، وهذا طبيعي عند النساء الحوامل ، لهذا كان واجبـاً على الأب أن يراعي الحالة النفسية التي تعيشها الأم، فتحاط بالحنان والرعاية ، كما أن حالتها النفسية في الشهر الثامن خاصة قبل الولادة بشهر تقريباً ، تكون أكثر سوءاً من الأشهر الأخرى، لذا وجب على الأب مضاعفة صبره وجهده معها بأن يجنبها كل ما يمكن أن يسوقها إلى الانفعال والضيق إذ إن الانفعالات الحادة والتوترات العصبية والنفسية للأم يمكن أن تنتقل إلى الجنين فقد ثبت علميّاً أن الجنين يتأثر بمرض الأم وصحتها، وكل ما يجري لها، أما ما يجري للأب فإنه لا يصل إليه، فإن دوره المباشر ينتهي بالتلقيح، وقد أشار بعض المختصين في هـذا الجانب إلى أن ما يظـهر على المولود من انفعـالات الخوف والشجاعة والغضب والكسل والحسد - وغيرها - هو نتيجة للعوامل والانفعالات النفـسية أثناء الحمل . ويوجه الأب زوجته الحامل إلى الجيد من الطعام كالرطب فإنه يقوي الرحم ، ويساعد على يسـر الولادة ، ويخفف نزف الدم بعد الولادة ، ويجنبـها النشويات والسكريات والدهون - خاصة في الأشهر الأخيرة- وذلك حفاظاً على متوسط وزن الجنين .

إثبات النسب :

إن إثبات النسب حق لله عز وجل ، وللطفل وللأب وللأم ، إذ إنه بهذا الإثبـات يصان الولد من الضيـاع والتشرد ، إلى جانب المحافظة على المجتمع من شيـوع الفواحش وانتشار اللقطاء . كما أن إثبات النسب ترتب عليه حقوق أخـرى مثل الولاية في الصغر ، والإنفاق والإرث ، وغير ذلك من الأمور التي يمكن مراجعتـها في كتب الفقه . وقد ورد التحذير الشديد لمن أنكر ولده وجحـد نسبه فقال عليه الصلاة والسلام :[ أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه ، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين ] . ( رواه الدارمي ) . كما ورد أيضاً التحذير والوعيد لمن انتسب إلى غير أبيه وهو يعلم .. وهكذا تحصـن الشريعة المجتمع من شيـوع الفساد ، وتمنع أسباب قطيعة الأرحام ، وظلم الذرية ، واختلاط الأنساب .

الأذان في أذن المولود :

ويستحب حين الولادة أن يقوم الوالد بالأذان في أذن المولود اليمنى ، وأن يقيم في اليسرى ، وذلك ليكون أول شيء يصل إلى المولود من أمور الحياة بعد الهـواء هو التوحيد المنافي للشرك ، فلا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
aborami10
لـــون جديد



ذكر السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 04/09/2010
المزاج : عال العال

» سلسلة كتب الأمة » 1 - مشكلات في طريق الحياة الإسلامية   » الابوة Empty
مُساهمةموضوع: رد: » سلسلة كتب الأمة » 1 - مشكلات في طريق الحياة الإسلامية » الابوة   » سلسلة كتب الأمة » 1 - مشكلات في طريق الحياة الإسلامية   » الابوة I_icon_minitimeالسبت سبتمبر 04, 2010 10:58 pm

تابع


من فوائد بر الوالدين :

1. من كمال الإيمان وحُسن الإسلام .

2. من أفضل العبادات وأجل الطاعات .

3. طريق موصل إلى الجنة .

4. الزيادة في الأجل والنماء في المال والنسل .

5. رفع الذكر في الآخرة ، وحُسن السيرة في الناس .

6. من بر آباءه بره أبناؤه ، والجزاء من جنس العمل .

7. بر الوالدين يفرج الكرب .







صورة من حب الآباء وكيف يبرهم أبناؤهم

د. عمر سليمان الأشقر



قال محدثي : أعن حب الآباء لأبنائهم تتحدثون ؟ لقد رأيت من أبي مشهداً قام مقام المجلدات التي تسطر في هذا الموضوع، لقد عرفت والدي هادئاً متزناً وقوراً، خاصة بعد أن علاه الشيب وانحنى ظهره ، وقد فوجئت أيمـا مفاجأة إذ رأيته ينفجر باكياً وقد كاد القطار أن ينطلق بي وبأسرتي مسافرين إلى مقر عملي ، ولكن ما رأيته بعدُ كان أعجب ، بدأ القطار مسيرته فإذا بالأب الباكي يساير القطار في مواجهتنا ينظر إلينا من خلال دموعه الهاطلة ، وينطلق القطار يعدو وإذا بوالدي يجري جرياً يلوح لنا بيديه ، ويدعو بلسانه ، وقد نسي أنه ابن الستين ونسي وقاره واتزانه ولم يلتفت إلى العيـون التي ترمقه من هنا وهناك ، ولم يلتفت إلينا ونحـن نشير إليه بأن يكف ويرجع ، وإذا بي وقد شدهني المنظر أغلق النافذة رحمة به ليكف ، ولأنني لم أستطع أن أرى أكثر مما رأيت .

وذكرني محدثي بذلك الرجل المتأنق في لباسه المعتني بمظهره ، حتى إذا ما سجن ولده ذهل عن نفسه ، وأهمل العناية بهندامه ، وحل مكان البشـاشة التي كانت تلازمه كآبة تعلوه ، ونظراته أصبحت هائمة زائغة .

وقد يصل حب الآباء للأبناء أن يُصـاب الآباء بمرض جسماني إذا ما حدث للولد شيء أو غاب عن أبيـه ، أوَلم يفقد نبي الله يعقوب بصره لشدة حـزنه على ابنه يوسف ؟! ( وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وأبيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ) يوسف:84 . وقد خشي عليه أبناؤه الهلاك لكثرة ذكره ليوسف : ( قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين ) يوسف:85 .

ويشم الأب المحزون ريح يوسف عندما قدم أحدهم بقميصه ولمـَّا يصل إليه، حتى إذا ما ألقاه على وجهه ارتدّ بصـيراً ، ألا ترى كيف أعاد الله إليه بصـره بفرحته بالبشرى ؟

روى الترمذي في سننه عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته : قبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم . فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم . فيقول : فمـاذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع. فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً، وسمُّوه بيت الحمد ]

هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟

فما دامت هذه مكانة الأبناء في نفوس الآباء ، ولهما الفضل السابق ، إذ هما سبب وجود الإنسان ، ولهما عليه غاية الإحسان ، فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق ، فحقٌ على الأبناء أن يعترفوا بالإحسـان ، وأن يشكروا النعمة ( أن أشـكر لي ولوالديك إليّ المصير ) لقمان:14 . خاصة عندما يبلغـان من العمر عتيـًّـا فيجب التواضع لهما ، ومخاطبتهما بالقول اللين، وتكريمهما والدعاء لهما ( إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريمًا واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا ) الإسراء:23 .

ولو فعل الولد ما فعل ما جزى والده [ إلا أن يجـد الولد والده مملوكًا فيشتريه فيعتقه ] كما صح بذلك الحديث من رواية مسلم ، ذلك أن الحرية والخلاص من العبودية حيـاة جديدة تقابل تلك الحياة التي كان الوالد هو المتسبب بها .

ومن بر الوالدين ألا يتسبب الابن في إيصـال الأذى إليهما . يقول صلى الله عليه وسلم : [ من الكبائر شتم الرجل والديه ] . قالوا : يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه ؟! قال : [ نعم ، يَسُبُّ أبا الرجل فَيَسُبُ أباه ، ويسب أمه فيسب أمه ] . رواه البخاري ومسلم .



كيف نبر آباءنا بعد وفاتهم ؟

ويستطيع الولد أن يبر والـديه بعد وفاتهما بالدعـاء والاستغفار لهما ، والتصدق عنهما ، وصلة أصدقائهما ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : [ إن من أبر البر صلة الرجل أهل وُدِّ أبيه بعد أن يولي ] روى الحديث مسلم في صحيحه . ويحدثنا الإمـام مسلم في صحيحه أن راوي الحديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - سافـر من المدينة إلى مكة ، فمر به أعرابي فناداه فقال له : ألست فلان بن فـلان ؟ قال : بلى ، فأعطاه حماراً وقال له : اركب هذا، وأعطاه عمامة وقال : اشدد بها رأسك ، وقد كان عبد الله يتروح على الحمـار إذا تعب من ركوب الراحلة ، ويشد رأسه بالعمامة، ولما سأله أصحابه عن سر هذا العطاء مع حاجته لما أعطى حدّث بالحديث الآنف الذكر ، ثم قال : وإن أباه كان صديقاً لعمر رضي الله عنه .



التحذير من عقوق الوالدين :

وقد حذرنا الله وخوفنا من عقوق الوالدين فقال تعالى: ( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصـل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ) ، وممن أمر الله أن يوصلوا : الوالدان ، فقطيعتهم تدخل في اللعنة ، ويكون القاطع ممن استحق سوء الدار ، وفي الحديث الذي يرويه البخاري يقول عليه الصلاة والسلام : [ لا يدخل الجنة قاطع ] .

وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم عقوق الوالدين أحد ثلاثة ذنوب هي أعظم عظائم الذنوب ، يقول عليه السلام: [ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ] قالها ثلاث مرات قلنا : بلى يا رسول الله . قال : [ الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ] وكان متكئاً فجلس فقال : [ ألا وقول الزور ، وشهادة الزور ] . رواه البخاري ومسلم.

وفي الحديث الذي يرويه البخـاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : [ إن الله حَرّمَ عليكم عقوق الأمهات، ومنعاً وهات ( أي منع ما وجب عليه ، وطلب ما ليس له ) ووأد البنات ] .



عاقبة البر :

في حديث في صحيحي البخاري ومسلم يخـبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة رجال ممن كانوا قبلنا كانوا يتماشون ، فأخذهم المطر فمالوا إلى غار فانحطت على فم غارهم صخـرة من الجبل ، فتوسل كل واحد منهم إلى الله بأرجـى عملٍ صالح عمله ليخلصهم مما هم فيه . فقال أحدهم: "اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران ، ولي صِبية صغـار كنت أرعى عليهم ، فإذا رحت عليهم فحلبت بدأت بوالديّ أسقيهما قبل ولدي ، وإنه قد نأى بي الشجر يوماً فما أتيت حتى أمسيت ، فوجدتهما قد ناما فحلبت كما أحلب ، فجئت بالحلاب فقمت عند رؤوسهما أكره أو أوقظهما وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما ، والصبية يتضاغون (يبكون) عند قدمي، فلم يزل دأبي ودأبهم حتى طلع الفجـر، فإن كنت تعـلم أني فعلت ذلك ابتغـاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء". فاستجاب الله دعاء هذا الرجل الصالح في وقتٍ من أحرج الأوقات فجعل له مخرجاً ببره بوالديه .

وقد يكون البر سبباً للنجاة من البلايا ، وقد يعطي الله به الرزق والخير ، أمـَّا في الآخرة فالبر مركب يوصل إلى الجنة إذا تحقق الإيمان ، فهذا صحابي اسمه "جاهمة" يستأذن الرسول في الجهاد فيقول له الرسـول: [ هل لك من أم ؟ ] قال: نعم . قال: فالزمها فإن الجنة عند رجله ا] رواه أحمد والنسائي والبيهقي وإسناده جيد .

وفي الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم : [ رغم أنفه ، رغم أنفه ، رغم أنفه قيل : من يا رسول الله ؟ قال: [ من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخلانه الجنة ] . رواه مسلم . وفي الحديث القدسي يقول الله تعـالى للرحم عندمـا استعاذت به من القطيعة : [ ألا ترضين أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك؟] رواه البخاري ومسلم. ويأمر الرسول صلى الله عليه وسلم صحابيـاً بأن يطيع أمه بقوله : [ الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه ] رواه الترمذي وابن ماجه.

وصية الإسلام بالوالدين :

جاء الإسلام ليهدي البشرية إلى الصراط المستقيم الذي يوصل العبـاد إلى رضوان الله ، ويعيدهم إلى جنته ، ويوفر لهم الحياة الطيبة، ولذلك عَرفّهم بالحقوق، وأمرهم بأدائها ، وأعظم الحقوق حقه سبحانه وتعالى لأنه المنشئ الموجد الذي خلق فسوى، وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة ، والأيدي التي نأكل بها ، والأرجل التي نمشي عليها ، وجعل لنا الأرض التي تقلنا بسهولها وجبالها ونباتها وحيوانها ، وسخرها لنا، وسخر لنا السماء التي تظلنا، وأمدنا بشمسها وقمرها وجعل لنا في كل ذلك منافع شتى ، ويأتي بعد حقه سبحانه ، حق الوالدين ولذلك كثيراً ما يأمر سبحانه بعبادته وحده لا شريك له ، وطاعته فيما أمر وذلك حقه وحده ، ثم يثني بالأمر بالإحسان للوالدين يقول تعالى: ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً . وبالوالدين إحساناً ) .

ويقول: ( قل تعالوا أتلُ ما حرّم ربـكم عليـكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ) . النساء:36.

وقال: ( إنّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنـة خالدين فيها جزاءً بما كانوا يعملون ووصيـنا الإنسـان بوالديه إحساناً ) . الأحقاف:13.

وهذا العبد الصالح لقمان يوصي ابنه فيحذره من الشرك ، لأنه ظلم عظيم: ( وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بُني لا تُشرك بالله إنّ الشرك لظلم عظيم ). لقمان:13.

وفي مقابل وصية العبد الصلاح تأتي الوصية بالوالد غير مصدرة بيا بني: ( ووصينا الإنسان بوالديه ) العنكبوت:8 .

ولما كانت التكالي ف التي تتحملها الأم أكثر ، خصّها الله بمزيد من العناية في الوصية ببيان مدى ما تقاسيه ( ووصينا الإنسـان بوالديه حملته أمه وهناً على وهنٍ وفصاله في عامين ) لقمان:14.

وفي الآية الأخرى يقول : ( حملته أمهُ كُـرهاً ووضعته كُرهاً وحمله وفصله ثلاثون شهراً ) . الأحقاف:15. ولذلك عندما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم فقيل له : " من أحق الناس بحسـن صحابتي ؟ قال : أمك ، ثلاثاً ، وفي الرابعـة قال له :

أبوك . رواه البخاري ومسلم .

ويأمرنا الله تعالى بشكره ويثني بالأمر بشكر الوالدين ( أن اشكر لي ولوالديك ) وأحق الناس بإحسانك أمك وأبوك ( يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين ) البقرة:21 . ولمكانة الوالدين وعظم حقهما قَدّم الرسول برهما على الجهاد ، فعن ابن مسعود قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله ؟ قال:[ الصلاة على وقته ا] قلت: ثم أي ؟ قال : [ بـر الوالدين ] قلت : ثم أي ؟ قال : [ الجهاد في سبيل الله ] . رواه البخاري .

وهذا صحابي يقدم ليبايع الرسول على الجهاد والهجرة فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم : [ فهل من والديك أحـد حي؟] قال: نعم كلاهما . قال :[ فتبـتغي الأجر من الله تعالى؟] قال : نعم . قال : [ فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما ] رواه البخاري ومسلم.



الأب المشرك :

أما صلة الابن المسلم بأبيه المشرك فقد حَدّها قوله تعالى: ( وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تُطعهما إليّ مرجعكم ) . العنكبوت:8 .

وقال تعالى في سورة لقمان : ( وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفًا ) . لقمان:15 . والمعنى وإن حرصـا على أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين فإياك وإياهما فلا تطعهما في ذلك . وأمـره بالإحسان اليهما وذلك بإمدادهما بالمال وخدمتهما وقضاء حوائجهما وهذه الآيات نزلت في سعد بن مالك رضي الله عنه، وكان بأمه باراً ، فلما أسلم أقسمت أمه ألا تطعم طعاماً ، ولا تشرب شـراباً حتى تموت أو يرجع عن دينه ، وقد بقيت أياماً كذلك ، فلما يئست من رجوعه أكلت وشربت. والقصة في صحيح مسلم ومسند أحمد . وهذه أسماء بنت أبي بكر الصديق قدمت عليها أمها وهي مشركة في عهـد قريش فقالت: يا رسول الله! إن أمي قدمت علي وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: "نعم صليها" وفي القرآن ما يشير إلى ذلك ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتـلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم إن الله يحب المحسنين ) الممتحنة:8. فإن كان الأب مع كفـره مقاتلاً للمسلمين ، ففي مثل هذا نتأسى بأبي عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة حيث قتل أباه في ساحة الوغى .

من كتابه (مواقف ذات عبر)

حقوق الأب المالية

حق الوالد في صلته مالياً وإنفاذ وصاياه :

محمود عوض

بر الوالدين وصلتهما أمر معلوم من الدين بالضرورة ، قال الله عز وجل Sadواعبدوا الله ولاتشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ) . النساء 36 ، وقد تكرر هذا المعنى في مواضع كثيرة من القرآن الكريم حيث جعل الإحسان إلى الوالدين بعـد عبادة الله عز وجل وتوحيده مباشرة ، وقال عز من قائل : " ووصيـنا الإنسـان بوالـديه

حسنًا " . العنكبوت 8 . وقد وردت الوصية للوالدين بهذا اللفظ "ووصينا " ثـلاث مرات في القرآن الكريم ، وهذا يدل على حفـاوة القرآن بالوالدين وبرهما ، وفي السنة عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه _ قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله تعالى ؟ قال [ الصلاة على وقتـها، قلت ثم أي ؟ قال بر الوالدين ، قلت ثم أي ؟ قال الجهاد في سبيل الله ] . رواه البخاري ومسلم .

وهذه النصوص وغيرها تدل على أن أفضل حقـوق الناس حق الوالدين ، وقـد وردت بعض النصوص تخص حق الوالد وكرامتة على ولده ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ لا يجزى ولد والداً إلا أن يجـده مملوكاً فيشترية فيعتقه ] . رواه مسلم .

وإذن فمكانة الوالد عظيمة في الإسـلام ، ومن هنا نجد أن الإسلام رتب له حقوقاً مالية يتكلفها ولده طاعة لله عز وجل ، ورداً لجزء من حقوق وجميل الوالد عليه إذا كان الوالد حيًا واجداً ، أو بعد موته من تركـته حيث يرث الأب مع الوارثين ، ونبدأ بالميراث :

حالات الأب في الميراث :



الأب في الميراث من أصحاب الفروض ، ومن العصبات ، لذلك كان له حالات في الميراث نذكرها فيما يلي :

ا لحالة الأولى : الإرث بالفرض وحده :

وهذا إذلا كان للميت فرع وارث من الذكور كالابن وابن الابن .

الحالة الثانية : الإرث بالتعصيب وحده .

وذلك إذا لم يكن للميت فرع وارث أبداً ، ذكراً كان أم أنثى ، كابن أو بنت أو ابن ابن أو بنت ابن .

ودليل الحالة الأولى قولة تعالى : ( لأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد ) النساء : 11 . أي ولأبيه الباقي ، لأن القرآن لما سكت عن نصيب الأب ، تبين أنه يأخذ ما بقي بعد نصيب الأم وذلك بالتعصيب .

الحالة الثالثة : الجمع بين الفرض والتعصيب :

وذلك إذا كان معه من ولد الميت أنثى وارثة ، كبنت الميت ، أو بنت ابنه واحدة كانت أو أكثر فإنه يأخذ السدس بالفرض أولاً ، ثم يأخذ الباقي بالتعصيب، إن بقي بعد الفروض شيء.



ودليل ذلك قول النبي صلى الله علية وسلم: [ ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأوْلى رجلٍ ذَكَر ] . رواه البخاري .



والأب في مسألتنا أقرب رجل ذكر، حيث يأخذ السدس أولاً بالفرض، وتأخذ الأنثى من ولد الميت نصيبها، ويأخذ الأب ثانية الباقي بالتعصيب.



حق الوالد في النفقة

وأما حق الوالد في النفقة فهي واجبة على الولد متى كان واجداً لها ، فعن عمارة بن عمير عن عمته أنها سألت عائشة رضي الله عنها قالت: في حجري يتيم أفآكل من ماله ؟ فقالت : قال رسول الله صلى الله علية وسلم [ إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وولده من كسبه ] رواه أبو داود والترمذي وغيرهما .

قال الشيخ سيد سابق ( في فقه السنة ) ، وأما أخذ الوالدين من مال ابنهما فإنه يجوز لهما أن يأخذا منه سواء أذن الولد أم لم يأذن ، ويجوز أن يتصرف فيه مالم يكن ذلك على وجه السرف أو السفه للحديث المتقدم ، ولحديث جابر رضي الله عنه الذي رواه بن ماجه أن رجلاً قال يارسول الله إن لي مالاً وولداً وإن أبي يريد أن يجتاح مالي فقال صلى الله عليه وسلم : [ أنت ومالك لأبيك ] واللام هنا للإباحة وليست للتمليك ، وذهب الأئمة الثلاثة إلى أنه لايأخذ من مال ابنه إلا بقدر الحاجة ، وقال أحمد له أن يأخذ من مال ولده ماشاء عند الحاجة وغيرها.

حق الوالد في الوصية من ولده

يرى مسروق وإياس وقتادة وابن جرير والزهري أن الوصية تجب للوالدين والأقربين الذين لا يرثون الميت ، أما الأئمة الأربعة فيرون أنها ليست فرضاً على كل من ترك مالاً ولا فرضاً للوالدين والأقربين غير الوارثين ، ويختلف حكمها عندهم باختلاف الأحوال فقد تكون واجبة أو مندوبة أو محرمة أو مكروهة أو مباحة .

حق الوالد في الوقف له

في حديث مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء : صدقة جارية أوعلم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ] ومعنى الحديث أن الثواب يتجدد للميت بهذه الأشياء الثلاثة لأنها من كسبه ، فولده وما يتركه من علم ، وكذا الصدقة الجارية كلها من سعيه ، ومن بر الوالد بعد موته أن يوقف له ابنه شيئاً من المال أو غيره على سبيل الصدقة الجارية ، ووجوه هذه الصدقة كثيرة نظمها السيوطي فقال

إذا مات بن آدم ليس يجري عليه من فعال غير عشـــر

علوم بثها ودعاء نجــل وغرس النخل والصدقات تجري

وراثة مصحف ورباط ثغر وحفر البئر أو إجراء نهــر

وبيت للغريب بناه يأوي إليه أو بناء محل ذكــر

حق الوالد في الهبة

معنى الهبة إما أن يكون :

1/ الإبراء : وهو هبة الدين ممن هو عليه .
أو 2/ الصدقة : وهي مايراد به ثواب الآخرة.
أو 3/ الهدية : وهي ما يلزم الموهوب له أن يعوضه .

وقد شرعها الله لتأليف القلوب وتوثيق عرى المحبة بين الناس ، فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله علية وسلم [ تهادوا تحابوا ] .

وإذا كان حال الهبة ( وهي حق للرجل في كل ماله على المشهور من أقوال العلماء) فإنها من الولد لوالده أولى ، إذا كان الوالد مديناً فحق على ولده أن يقضي عنه أو يهدي إليه .



حق الوالد في العمرى والرُّقبى

والعمرى والرقبى هي أن يهدي الإنسان إنساناً آخر شيئاً مدى عمره فإذا كان الوالد في حاجة إلى مثل هذا الشيء من ولده فهو أحق به من غيره .

وأما الرقبى فهي أن يقول رجل لصاحبه : أرقبتك داري وجعلتها لك في حياتك فإن مت قبلي رجعت إلي وإن مت قبلك فهي لك ولعقبك فكل واحد منهما يرقب موت الآخر ، فتكون الدار التي جعلها رقبى لآخر من بقي منهما ، ويمكن أن يجري هذا بين الولد ووالده.



من واقع الآباء
آباؤنا في البيوت

د. مصطفى السباعي

من مشاكل الأسرة التي تؤثر في سلوكنا الاجتماعي علاقة الآباء والأمهات ، فكثيراً ما يقع الخلاف بين الولد وأبيه ، وكثيراً ما يجـر هذا الخلاف وراءه ذيولاً أخلاقية واجتماعية مؤلمة ، وقد تؤدي إلى ارتكاب جرائـم القتل والعدوان . ونستطيع أن نقسم أسباب الخلاف إلى سببين رئيسيين :

سبب معقول : لا بد فيه من استعمال الحكمة .

وسبب غير معقول ولا مشروع : وهو ما يتسم بسمة العقوق من الولد نحو أبيه.

أما الأول : فهو ما ينشأ عن تحكم الأبوين في علاقة ولدهما بهمـا بعد الزواج أو عنده ، فهما يحرصان غالباً على زواج ولدهما بفتاة يريدانها. أو ليست له مصلحة حقيقية في الزواج منها ، بل إنهما ليرغبان في ذلك طمعاً في مال ، أو انسياقاً وراء عاطفة ، أو حرصاً على صداقة أو قرابة ، دون نظـر إلى مصلحة الولد الحقيقية في هذا الزواج ، وهذا خطأ فادح يجر إلى أسوأ العواقب ، وهو تحكم من الأب أو الأم لا يبرره الشرع ولا العقل ولا الحكمة ، ومن الخير أن يؤخـذ في ذلك رأي الابن ويقتنع به ، لأنه هو الذي سيتزوج الفتاة ويشترك معها في السراء والضراء ، فإذا لم يجد فيها سَكَنَه النفسي والروحي كان زواجه منها مبعث شقاء له ولها، وقد يتعدى ذلك إلى شقاء أسرتيهما معاً .

وحين يتزوج الولد يرغب الأبوان ( غالباً ) في أن يظل بجانبهما ، يسكن معهما هو وزوجه وأطفاله ، فتنشأ المشاكل بين الأم والزوجة ، وبين الأب والابن ، وكثيراً ما تكون أسباب المشاكل التافهة ناشئة عن رغبة الأب أو الأم في فرض سلطانهما على الولد بعد زواجه ، كما اعتادا ذلك أيام طفولته وعزوبته ، وقد تنشأ عن غطـرسة الزوجة أو نفرتها من حماتها ، أو تدخل الأبوين في العلاقة بينها وبين زوجهـا ، وفي البيئات الجاهلة أو الظالمة يحمل الأبوان ولدهما على القسوة على زوجته وتعذيبها ، وأحياناً على طلاقها لأنها لأنهـا لا تخضع لهما أو لا تنسجم معهما ، وعادة إسكان الولد مع أبويه بعد الزواج لا تزال منتشرة في القرى وفي أكثر سكان المدن ، وهي عادة قديمة نرى آثارها في البيوت القديمة التي كانت تعـد لإسكان الأولاد حين زواجهم مهما كان عددهم في البيت الواحد ، وكان الأب حين يريـد تزويج ابنه يكتفي بأن يفـرد له في الدار غرفة واحدة لسكنه وزوجته ، بينما يشترك مع أبويه وإخوته في غرف الأكل والجلوس والاستقبال ، وقد رأينا عدة أبنـاء يشتركون مع أبويهم في بيت واحد ، ويتكاثر الأولاد في هذا البيـت حتى يشبه خلية من النحل تعج بالأطفال والنساء والرجال ، ولهذه العادة محاذير متعـددة من جهة الشـرع والأخلاق والصحة النفسية والجسمية .

والآن وقد تطورت الحياة وتعددت مشكلاتها ومطالبها ، وتطور بنـاء البيوت من الأسلوب الإسلامي الشرقي إلى الأسلوب الغربي الحديث، لم يعد من المستحسن أن يتمسك الأبوان بهذه العادة ، ومن الخير لهما ولولديهما أن يهيئا بأنفسهما له سكناً خاصاً خارج بيتهما، لتظل علاقات الود والحب والاحترام قائمة بينهما وبين ولدهما وزوجه ، فيحال دون وقوع المشكلات وتجـددها يوماً بعد يوم في البيت الواحد والعائلة الواحدة .

والقسم الثاني : من أسباب الخلاف هو ما يكون منشؤه العقوق والجحود ، عقوق الولد لأبويه وجحوده لفضلهما ، ويتجلى ذلك في تأففه من أوامرهما وتكاليفهما ، ومن رقابتهما لسلوكه ونصحهما له في أعماله، كما يتجلى عقوق الولد في انشغاله بنفسه وعائلته عن النظر في شؤون والديه وإعالتهما حين يحتاجان إلى إعانته وإنفاقه وقد يتطور هذا العقوق إلى الغلظة في خطابهم ، والتعدي عليهما بالضرب والإهانة. وكم رأينا أبناءً مجرمين اعتدوا على حياة آبائهم وأمهاتهم بالقتل أو الضرب المبرح الذي تنشأ عنه إحدى العاهات المزمنة ‍‍‍‍.

ومن أقبح مظـاهر العقوق أن يتبرأ الولد من أبويه حين يرتفع مستواه الاجتماعي عنهما ، كأن يكونا فلاحين وهو يعيش في المدن ، ويتسلم بعض الوظائف الكبيرة ، فيخجل من وجودهما في بيته بثياب الفلاحين أو الأزياء القديمة ، وقد شاهـدنا من بعض هؤلاء العاقين المغرورين من زعم لزواره عن أبيه أنه خـادم مستأجر لشؤون البيت ، لما يتوهم في لباسه وهيأته من حطَّة تـتنافى مع وظيفته أو مقامه الاجتماعي الكبير ، وهذا بلا ريب دليـل على حطة نفس ، وصغر عقل ، وحقـارة شأن . والنفس العظيمة تعتز بمنبـتها وأصلها ، وتفخر بأبيها وأمها ، مهما كانت حياتهما ونشأتهما وبيئتهم ، وحسبك أن القرآن الكـريم - مع تشديـده على الشـرك والمشركين - أوصى الولد بأن يعاشر والديه المشركين بالمعروف : ( وإنْ جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تُطعْهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً ) . لقمان:15.

هذه هي بعض مظاهر العقوق من الولد نحو أبيه وأمه ، من ثم كان العقوق قبيحاً في نظر المروءة والشريعة .

أما قبحه في نظر المروءة : فلأنه مكافأة لإحسـان الأبوين بالإسـاءة ولنعمتـهما بالكفران ، فلو استحضر الولد ما عاناه أبواه منـذ أن حملته أمه إلى أن وضعتـه وأرضعته وربته ، ومنذ أن أنفق الأب عليه جنيناً في بطن أمه حتى أصبح رجـلاً ذا زوج وأولاد ، ولو تذكر فضل أبويه وكفاحهما من أجـله في مراحل حيـاته منذ الاجتنان حتى الزواج ، لوجد أن ما يقدمه لهمـا بعد ذلك من بر وعون في حياته كلها لا يعادل فضل يوم واحد من أيام أبويه معه ، فكيف يكون من المـروءة أن يجحد فضلهما ، ويبدلهما بالإحسان إساءة وبالشكر كفراناً ؟

ولو كان فضل الأبوين قاصراً على الإنفاق المادي لهان الأمر ، ولكن فضلـهما في حياطته بالعاطفة والحب والرعاية والسهر هو أقوى وأشد تأثيراً في حياته وهو طفل صغير ، إن الطفل يعيش بعاطفة أبويه وحنانهـما أكثر مما يعيش بمالهمـا ، ويا الله للأبوين ، ما أكبر قلبيهما ، وأنبل عاطفتيهما ، حين يسهـران الليل كله لطفلهما الوليد الذي يصرخ ويبـكي ، فلا يذوق الأبوان طعم المنـام ولا برد الاستقرار ، يكبان عليه ساهرين جزعين وجلين على حياته وصحته ، حتى ليتمنيَّان أن يفديـاه بحياتيهما ، فإذا بزغ الفجـر وهدأ الألم وعاودت الطفل ابتسامته ، نسيـا سهرهما وآلامهما وأكبّا عليه يقبـلانه ويضمانه ؟! إن ليـلة واحدة من هذه الليالي - وما أكثرها في حياة الطفل - في آلامها وأحزانها وتعبها وسهرها ، لتعـدل مال الدنيا يصبه الولد حين يكبر بين قدميهما، ثم لا يكفي ذلك في جزائهما ولا شكرانهما.

فما يطيق الولد - مهما كان براً وفياً - بعض ما كان يطيق الأب من عذاب وآلام ولده الصغير حين كانت تنتابه الأوجاع والأسقام .

أفليس قبيـحاً إذن في عرف المروءة والأخـلاق أن يقف الولد من أبويه في كبره موقف الجحود ، وهو المدين لهما في حياته منذ ولادته وطفولته ؟

ومن هنا كان حقاً ما تقرره الشريعة من أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، وأشد الذنوب بعد الشـرك بالله عز وجل : ( وإذ قال لقمان لابنـه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم . ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنـًا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير ) . لقمان: 13-14 .

فانظر كيف قرن النهي عن الشرك بالله مع الوصـية بالوالدين ووجوب الشـكر لهما في آية واحدة ونسق واحد .

ويقول صلى الله علي وسلم : [ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ الشرك بالله وعقـوق الوالدين ] . رواه البخاري ومسلم .

فلا يُقدم على عقوق الوالدين إلا فاقد المروءة سييء الخلق قليل الدين ، ومن كان كذلك مع أوثق الناس به وأكثرهم تفضلاً عليه ، كان مع الناس أدنى مروءة وأسوأ خلقاً وأقل ديناً .

وقد يبرر بعض الأولاد عقوقـهم لآبائهم وأمهاتهم بقسوة هؤلاء الآباء والأمهات وظلمهم له وتعديهم عليه ، وأنا لا أنكر أن بعض الآباء يفعلون ذلك ، وأن بعضهم يشتد في القسوة والتأديب حتى ليضرب ولده فيكسر له يداً أو يقصـم له ظهراً ، وهي قسوة جاهلة ظالمة بلا شك ، لكنها لا تبرر العقوق بحـال ، فالولد كثيراً ما يخطئ في الحكم على الأب والأم بالقسوة والظلم ، وكثيراً ما تخفي عليه الحكمة ، لصغره وطفولته من قسوة أبويه وشدتهما عليه في التأديب ، وكثيراً ما يكون ذلك بدافع الشفقة والرحمة من دون أن يـرى الولد أن في ذلك شفقة أو رحمة. ولقـد مررنا كلنا بهذا الدور وبهذه الحالة ، فكم كـنا نبكي من قسوة آبائنا علينا ، ومن حرماننا من بعض ما نشتهي ، ومن منعنا بعض ما نريد أن نفعل ؟ وكنـا نتهمهم يومئذٍ بالظلم والقسوة ، ثم ما نلبث حين نعي الحياة ونفهمها أن نتبين فضلهما علينا في ذلك المنع والحرمان ، وما أصدق الشاعر حين يقول:

فَقَسَا ليزجروا ومن يك حازماً فَليقسُ أحياناً على من يرحم

وهب أباك ظالماً فيما صنع بك ، ألا تغتفر له ذلك لقاء ما سبق له من فضل عليك يوم كنت رضيعاً ، ووليداً ، وطفلاً صغيراً ، لا تجد في الكون من يحنو عليك غيره وينفق عليك سواه ؟

أيها الإخوة من أبناء وبنات .. لا تنسوا فضل آبائكم وأمهاتكم عليكم ، وإن غاب عنكم الآن مشهدهم ، فأنظروا إلى صنيعهم بإخوانكم الصغار ، انظروا إلى أمهاتكم حين يلدن أخواتكم كم يتألمن وكم يصرخن ، ثم نظروا إليهن بعد ذلك كم يسهرن وكم يأرقن وكم يجزعن . وانظروا إلى آبائكم كيف يكدحون في الحياة ويتعبون من أجل تربية إخوتكم الصغار وتعليمهم وتطبيـبهم ، وكونوا على ثقة أن الحياة جزاء ومكافأة ، فمن أحسن منكم إلى أبويه وبرهما وحَنَا عليهما ، رزقه الله أولاداً يحنون عليه ويبرونه ويحسنون إليه ، ومن عقَّ منكم أبويه عوقب بأولاد يعقـونه وينكرونه ويسيؤون إليه ، وقد قال رسول اللله صلى الله عليه وسلم : [ بروا آباءكم تبركم أبناؤكم ] . رواه الحاكم والطبراني .

وهذه التجربة رأيناها بأعيننا في كثير من الآباء والأمهات ، فانظروا كيف تريدون أن تكونوا حين تكبرون وتحتاجون إلى عون الولد ونصرته وبره ومساعدته ، ولست أجد في تذكيركم بحق الأبوة والأمومة أبلغ ولا أروع من هذه الآيات الكـريمة من كتاب الله العظيم ، فاستمعوا إليها واعملوا بها : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ً، إمّا يبلَغنَّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أُف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب أرحمهما كما ربياني صغيراً ) . الإسراء: 23-24 .

من كتاب أخلاقنا الاجتماعية


آباء مسعورون

عبد السلام البسيوني
أتعرفون السعار ؟

إنه مرض خبيث خبيـث ، يظل بالحيوان حتى يفتك به بعد عذاب مرير ، ومرض مستطير . وهو - ككثير من الأمراض الخبيثة - ينتقل إلى حيوانات كثيرة تصاب بجرثومته الفاتكة القاضية ، التي تحيل القط أو الكلب وحشاً يحمل الرعب بين أنيابه وقطرات لعابه ، فلقد - والله - رأيت حيواناً مسعوراً يعض أطرافه وما تصل إليه أسنانه من جسده حتى مات .

أتعرفون أن الإنسان قد يصاب بالسعار أيضاً إذا عقره حيوان مسعور ؟ وقد يصاب بالسعار في وطنيته ، فيبيع أمته بهزة وسط ، وجلسة حظ ، وشيك بعدة أصفار !!!

وقد يبيع دينه مقابل صورة في جريدة ، أو تنويه في إذاعة ، أو دعوة أكاديميـة من هيئة ( نص كم ) .

وقد يصاب بالسعار في أخلاقه إذا كان يحيا في بيئة مبتلاة بفيروسات السعار الخلقي التي تتخذ أشكالاً وأشكالاً ، حتى ينهش لحم نفسه ، ويعتدي على عرضه !!

نعم - والله - إن هناك سعاراً أخلاقياً يؤدي بالإنسان إلى أن يتوحش ، فلا يميـز صديقاً من عدو ، ولا ضعيفاً من قوي ، ولا غريـباً من قريب ، ولا ذا رحم من غريب .

ويطفح هذا المرض على المساعير عدوانيةً ووحشية وهمجية جنسية أخـلاقية …

إنه السعار الذي لا يعرف حدوداً للإباحية والسقوط الأخلاقي والعياذ بالله، فيلتهم البنت أو الأم أو الأخت أو غيرهن .

وهو منتشر بطريقة سرطانية خبيثة : فمرات يحميه القانون ، ومرات يغض الطرف عنه ، مرات يتم بالتراضي والاستباحة ، وأخرى يؤخذ غلاباً واغتصابا ً، وتسكت الضحية التي تبلع سرها ، وتطويه بين جوانحها ، لأمر بسيط هو أن الوحش المسعور والمجرم الغاصب هو : أبوها .. ولي أمـرها .. أخوها .. عمها .. زوج أمهـا..

وصدقت أمي يرحمها الله : ما بيجيش من الغرب حاجة تسر القلب ، فما حكـاية استباحة المحارم في بلاد الياقات المنشّاة ، والأظافر المدماة ؟!

* في مطالع فبراير 1994م كتبت مجلة News week عن موجة أدبية ملحوظة ، بدأت تتكثف ويرتفع صوتهـا منذ نحو ثلاث سنين ، تحلل وترصد وتسلّط الأضواء على ظاهرة اغتصاب المحارم INCEST في المجتمعات الأوربية ، حتى غدت هذه الكتابات سوطاً بارداً يلهب ظهر المجتمع الجامح المتمادي في كثير من الممارسـات المنفلتة ، والسلوكيات المسعورة . فكتبت مارلين فرنـش عن أربع فتيات انتهكهن آباؤهن في طفولتهن المبكرة ، من خلال روايتها : أبونا Our Father .

· وفي سنة 1990 ظهرت رواية اللعب بالنـار Playing With Fire . لداني شبيرو .

· وفي سنة 1991 خرجت رواية : أثقل من الماء Thicker Than Water لكاترين هاريسون ، كما كتبت اليزابيث ديوبري فوغن روايتـها : اكسر قلبي Break The heart Of Me وكذا كتبـت ستيفن كنج رواية لعبة جيرالد Gerald's Game وكلها تدور عن سفاح المحارم ، وقهر الصغيرات، وظاهرة السعار الخلقي التي يصاب بها أب أو جد أو أخ …

· وتحلل آن باتي الظاهرة باعتبارها جزءاً من ثقافة التضحية بالبشر التي تحيـاها المجتمعات الاوروبية الآن Culture of Victimization وذلك من خـلال روايتها : شخص ما يريد الانطلاق Someone Wants To Jazz مركّـزة فيها على معنى الانتهاك النفسي والعاطفي للمحارم .

· ويستغل الكتّاب الأذكياء هذا الموضوع المثير في طرح رواياتهم - مكتـوبة أو متلفزة - باعتباره الآن مادة شائقة !! فالكاتبة جين سمايلي تبدل أحداث ومواقع قصة شكسبير : الملك لير ، وتعيد صياغتها عبر قصتها ألف فدان ، فتجعلها تتم فصولاً في مزرعة بأيوا - أمريكا - من خلال بطلتها : البنت التي اغتصبها جدّها العجوز ، كما أخرج روبرت أولين روايته : إنهم يتهامسون They Whisper وكتبت مرجريت أتوود - حديثاً - روايتها The Rubber Bride عن فتاة اغتصبها عمها في طفولتها ، كما كتبت مارج بيرسي في روايتها : أشواق امرأة The Longing's of a Women عن الناجيات من الاغتصاب .

وعن الظاهرة تقول باميلا دورمان المحررة الأولى في الـ Viking: إننا نغرق في النهج الشيطاني والذكريات المكبوتة .

هذه الأسماء والعناوين جزء من طوفان القذارة الذي ينعم به المجتمع الغربي ، ذلك الذي افتتن به كثير من بني جلدتنا ، فحاول جهده أن يستورده فكراً ، وإعلاماً ، وترفيهاً وفلسفات وأساليب حياة .

من كتاب : " تجفيف منابع الأمة " . [b]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
» سلسلة كتب الأمة » 1 - مشكلات في طريق الحياة الإسلامية » الابوة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» » سلسلة كتب الأمة » 1 - مشكلات في طريق الحياة الإسلامية » الابوة
» » سلسلة كتب الأمة » 1 - مشكلات في طريق الحياة الإسلامية » الارحام
» » سلسلة كتب الأمة » 1 - مشكلات في طريق الحياة الإسلامية » المراهقة
» » سلسلة كتب الأمة » 1 - مشكلات في طريق الحياة الإسلامية » الزوجة
» » سلسلة كتب الأمة » 1 - مشكلات في طريق الحياة الإسلامية » الانوثة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: اللون الرئيسي Main color :: الملتقى الإسلامي Islamic Forum-
انتقل الى: